سورة التوبة - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
{بَرَآءَةٌ} رفع بخبر ابتداء مضمر أي: هذه الآيات براءة، وقيل: رفع بخبر معرَّف الصفة على التقدير تقديره يعني {إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} براءة بنقض العهد وفسخ العقد، وهي مصدر على فَعالة كالشناءة والدناءة.
{مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المتولي على العقود وأصحابه كلّهم بذلك راضون، فكأنهم عقدوا وعاهدوا {فَسِيحُواْ} رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم: سيحوا أي سيروا {فِي الأرض} مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من أحد من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر.
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} يقال: ساح في الأرض يسيح سياحة وسيوحاً وسياحاً {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي غير فائتين ولا سابقين {وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين} أي مذلّهم ومورثهم العار في الدنيا وفي الآخرة.
واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله إليكم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله من المشركين.
فقال محمد بن إسحاق وغيره من العلماء: هم صنفان من المشركين: أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة اشهر فأُمهل تمام أربعة اشهر، والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ثم [....] بحرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين، يُقتل حيث ما أُدرك، ويؤسر إلى أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانتهاؤه إلى عشر من ربيع الآخر.
وأما من لم يكن له عهد فإنّما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوماً، وقال الزهري: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال، وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر، فأتمّ له الأربعة الأشهر، ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر، فهذا الذي أمر أن يتم له عهده، وقال: فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم، وقال مقاتل: نزلت في ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة وبني مذحج وبني خزيمة كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهدهم بالحديبية سنتين فجعل الله عز وجل أجلهم أربعة أشهر، ولم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحداً من الناس.
وقال الحسن: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره أن يدعو إلى التوحيد والطاعة، وفرض عليه الشرائع، وأمره بقتال من قاتله من المشركين، فقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وكان لا يقاتل إلاّ مَن قاتله، وكان كافّاً عن أهل العهد الذين كانوا يعاهدونه الثلاثة والأربعة الأشهر حتى ينظروا في أمرهم، فإما أن يسلموا وإما أن يؤذنوا بالحرب، ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر على أن يسلموا أو يؤذنوا بالحرب، ولم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر، لا مَن كان له عهد قبل البراءة، ولا مَن لم يكن له عهد، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحلّ دماء المشركين كلهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل.
قال عبد الرحمن بن زيد: نقض كل عهد كان أكثر من أربعة أشهر فردّه إلى الأربعة، وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: نزلت في أهل مكة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد محمد صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان مع ذا عهود من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبائل من العرب خصائص، فعدت بنو بكر على خزاعة فقتلوا رجلا منها ورفدتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهودهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
* يارب إني ناشدٌ محمداً * حلف أبينا وأبيه إلا تلدا *
* كُنتَ لنا أباً وكنا ولداً * ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا *
* فانصر هداك الله نصراً عتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا *
* فيهم رسول الله قد تجرّدا * أبيض مثل الشمس ينمو صعدا *
* إن سيم خسفاً وجهه تربدا * في فيلق في البحر تجري مزبداً *
* إن قريشاً لموافوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكدا *
* وزعموا أن لست تدعو إحدا * وهم أذلّ وأقلّ عددا *
* هم وجدونا بالحطيم هُجّدا * وقتلونا رُكّعاً وسُجّداً *
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنصرف إن لم أنصركم» فخرج وتجهز إلى مكة، وفتح الله مكة وهي سنة ثمان من الهجرة، ثم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف جعل المشركون ينقضون عهودهم، وأمره الله بإلقاء عهودهم إليهم ليأذنوا بالحرب، وذلك قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] الآية.
فلمّا كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة ولم [.........] أن حج حتى لا يكون ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلمّا سار دعا صلى الله عليه وسلم علياً فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذّن بذلك في الناس إذا اجتمعوا».
فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة فأخذها منه فرجع أبا بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله بأبي أنت وأمي أنزل بشأني شيء؟ قال: «لا ولكن لا يبلّغ عني غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنّك كنت معي في الغار وأنّك صاحبي على الحوض». قال: بلى يارسول الله، وذلك أن العرب جرت عادتها في عقد عهودها ونقضها أن يتولى ذلك عن القبيلة رجل منهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً لئلاّ، يقولوا: هذا خلاف ما نعرفه في بعض العهود.
قال جابر: كنت مع علي رضي الله عنه حتى أتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فلمّا كنا بالعرج ثوب بصلاة الصبح، فلمّا استوى أبو بكر ليكبّر سمع الرغاء فوقف وقال: هذه رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء، لقد بدا لرسول الله في الحج، فإذا عليها عليّ، فقال أبو بكر أمير أم مأمور؟ قال: بل ارسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرأها على الناس، فكان أبو بكر أميراً على الحج وعلياً ليؤذن ببراءة، فقدما مكة، فلمّا كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم وأقام للناس بالحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على مناسكهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذّن في الناس بالحج بالذي أمره به، وقرأ عليهم سورة براءة.
قال الشعبي: حدّثني محمد بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي، وكان إذا ضحل صوته ناديت قلت: بأيّ شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع لا يطف بالكعبة عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فعهده إلى مدّته، ولا تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك، قالوا: فقال المشركون: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب، وطفقوا يقولون: اللهم أنا قد منعنا أن نبرّك، فلمّا كان سنة عشر حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ونقل إلى المدينة، فمكث بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وليالي من شهر ربيع الأول حتى لحق بالله عز وجل.
{وَأَذَانٌ مِّنَ الله} عطف على قوله براءة، ومعناه: إعلام، ومنه الأذان بالصلاة، يقال: أذنته فأذن أي أعلمته فعلم، وأصله من الأُذن أي أوقعته في أُذنه، وقال عطية العوفي [و.
..] الأذان {وَأَذَانٌ مِّنَ الله} إلى قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الآية، وذلك ثمان وعشرون آية.
{وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} اختلفوا فيه فقال أبو جحيفة وعطاء وطاووس ومجاهد: يوم عرفة، وهي رواية عمرو عن ابن عباس، يدل عليه حديث أبي الصّهباء البكري، قال: سألت علي بن أبي طالب عن يوم الحج الاكبر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يعلم الناس الحج وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة، فخطب الناس يوم عرفة فلمّا قضى خطبته التفت اليّ وقال: هلمّ يا علي فأدّ رسالة رسول الله، فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة، ثم صدرنا حتى أتينا منى، فرميت الجمرة ونحرت البدنة وحلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا كلهم خطبة أبي بكر رضي الله عنه يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم، فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة.
وروى شهاب بن عباد القصري عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: هذا يوم عرفة يوم الحج الاكبر فلا يصومنّه أحد. قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا: سعيد بن المسيب، فأتيته فقلت: أخبرني عن صوم يوم عرفة فقال: أخبرك عمّن هو أفضل مني مائة ضعف عن عمر وابن عمر، كان ينهى عن صومه ويقول هو يوم الحج الأكبر.
وقال معقل بن داود: سمعت ابن الزبير يقول يوم عرفة: هذا يوم الحج الأكبر فلا يصمْهُ أحد، وقال غالب بن عبيد الله: سألت عطاء عن يوم الحج الأكبر، فقال: يوم عرفة فاقض منها قبل طلوع الفجر.
وقال قيس بن مخرمة: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ثم قال: أما بعد وكان لا يخطب إلاّ قال أما بعد فإنّ هذا يوم الحج الأكبر»، وقال نافع بن جبير، وقيس بن عباد، وعبد الله ابن شراد، والشعبي والنخعي والسدي، وابن زيد هو يوم النحر وهو إحدى الروايتين عن علي رضي الله عنه.
قال يحيى بن الجواد: خرج علي رضي الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبّانة فجاءه رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن الحج الأكبر، فقال: هو يومك هذا فخلّ سبيلها.
وقال عياش العامري: سئل عبد الله بن أبي أوفى عن يوم الحج الاكبر فقال: سبحان الله هو يوم النحر يوم يهراق فيه الدماء ويحلق فيه الشعر ويحل فيه الحرام.
وروى الأعمش عن عبد الله بن سنان. قال خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له يوم الأضحى فقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الاكبر.
وروى شعبة بن أبي بشر، قال: اختصم علي بن عبد الله بن عباس ورجل من آل شيبة في يوم الحج الاكبر، فقال علي: هو يوم النحر، وقال الذي من آل شيبة: هو يوم عرفة فأرسلوا إلى سعيد بن جبير فسألوه فقال: هذا يوم النحر إلا ترى أنه من فاته يوم عرفة لم يفته الحج، وإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحج، يدل عليه ما روى الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في نفر بعثهم يوم النحر يؤذّنون بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولايطوف بالبيت عريان، فأردف رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يأمره أن يؤذّن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذّن معنا علي كرم الله وجهه أهل منى يوم النحر ببراءة.
صالح عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن أبا بكر بعث في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذِّنون في الناس: لايحجّنّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر من أصل حديث أبي هريرة.
ابن عيينة عن ابن جريج عن مجاهد قال: يوم الحج الأكبر حين الحج أيام منى كلها ومجامع المشركين بعكاظ وذي المجارة ومخشة، ويوم نادى فيه علي بما نادى، وكان سفيان الثوري يقول: يوم الحج الأكبر أيامه كلّها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بُعَاث والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب كانت أياماً كثيرة.
واختلفوا أيضاً في السبب الذي لأجله قيل: هذا اليوم يوم الحج الاكبر. فقال الحسن: يسمّى الحج الأكبر من أجل أنه اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين، وقال عبد الله بن الحرث ابن نوفل: يوم الحج الاكبر كان لحجة الوداع، اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين، ولم يجتمع قبله ولابعده.
وروى منصور وحماد عن مجاهد قال: يقال الحج الأكبر القرآن، والحج الأصغر أفراد الحج، وقال الزهري والشعبي وعطاء: الحج الأكبر: الحج، والحج الأصغر: العمرة، وقيل لها [.............] عملها [.............] من الحج.
قوله عز وجل: {أَنَّ الله} قرأ عيسى أنّ الله بالكسر على الابتداء لأن الأذان قول {بريء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره مضمر تقديره: ورسوله أيضاً بريء، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب {ورسوله} بالنصب عطفاً على اسم الله، ولم يقل بريئان لأنه يرجع إلى كل واحد منهما كقول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله *** فأني وقيار بها لغريب
وروي عن الحسن ورسوله بالخفض على القسم، وبلغني أن اعربياً سمع رجلاً يقرأ هذه القراءة. فقال: إن كان أمراً من رسوله فإني بريء منه أيضاً، فأخذ الرجل بتلْنَتِه وجرّه إلى عمر ابن الخطاب، فقص الأعرابي قصته وقوله أيضاً، فعند ذلك أمر عمر بتعليم العربية.
{فَإِن تُبْتُمْ} رجعتم من كفركم وأخلصتم بالتوحيد {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان (إلى الإصرار) على الكفر {فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ} وأخبر {الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ثم قال: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم}.
وهو استثناء من قوله: براءة من الله ورسوله إلى الناس إلا من الذين عاهدتم {مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} من عهدكم الذي عاهدتموهم عليه {وَلَمْ يُظَاهِرُواْ} يعاونوا {عَلَيْكُمْ أَحَداً} من عدوكم بأنفسهم ولا بسلاح ولا بخيل ولا برجال ولا مال.
وقرأ عطاء بن يسار ثم لم ينقضوكم بالضاد المعجمة من نقض العهد، وقرأ العامة بالصاد.
قوله: {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} فأوفوا بعهدهم {إلى مُدَّتِهِمْ} أجلهم الذي عاهدتموهم عليه {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} وهم بنو ضمرة وكنانة وكان بقي لهم من مدتهم تسعة أشهر فأمر بإتمامها لهم {فَإِذَا انسلخ الأشهر} انتهى ومضى وقتها، يقال: منه سلخت أشهر كذا نسلخه سلخا وسلوخاً بمعنى خرجنا. قال الشاعر:
إذا ماسلخت الشهر أهللت مثله *** كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
وفيه قيل: شاة مسلوخة المنزوعة من جلدها، وحية سالخ إذا أخرجت من جلدها {الأشهر الحرم} وهي أربعة، ثلاثة فرد، وواحد زوجي وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب.
وقال مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمر بن شعيب: هي شهور العهد، وقيل لها الحرم لأن الله حرّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم إلا سبيل الخير {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} في الحلّ والحرم، وجدتموهم فأسروهم {واحصروهم} وامنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي على كل طريق ومرقب، يقال: رصدت فلاناً أرصده رصداً إذا رقبته. قال عامر بن الطفيل.
ولقد علمت وما إخالك ناسياً *** أن في المنيّة للفتى بالمرصد
{فَإِن تَابُواْ} من الشرك {وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} يقول: دعوهم في أمصارهم، ودعوهم يدخلوا مكة {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [.........] في حكم هذه الآية.
قال الحسين بن الفضل: فنسخت هذه الآية كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء، وقال الضحاك والسدّي وعطاء: قوله: {فاقتلوا المشركين} منسوخة بقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} [محمد: 4] وقال قتادة: بل هي ناسخة لقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} [محمد: 4].
والصحيح أنّ حكم هذه الآية ثابت، وأنها غير منسوخة إحداهما بصاحبتها لأنّ المنّ، والقتل، والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم من أول حاربهم وهو يوم بدر، ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَخُذُوهُمْ} والأخذ هو الأسر، والأسر إنّما يكون للقتل أو الفداء، والدليل عليه أيضاً قول عطاء قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأسير يقال له أبو أُمامة وهو سيد اليمامة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا أُمامة أيّها أحب إليك: أعتقك أو أفاديك أو أقتلك أو تسلم؟». فقال: أن تعتق تعتق عظيماً، وأن تفادِ تفاد عظيماً، وإنْ تقتل تقتل عظيماً، وأما أن أسلم فلا والله لا أسلم أبداً.
قال «فأني أعتقتك». فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسوله.
وكانت مادّة ميرة مكة من قبل اليمامة فقال لأهل مكة: والذي لا إله إلا هو لاتأتيكم ميرة أبداً، ولا حبّة من قبل اليمامة حتى تؤمنوا بالله ورسوله فأضرّ إلى أهل مكة فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيّهم له حزب يشكون ذلك إليه، فكتب إلى أبي أُمامة: «لاتقطع عنهم ميرة كانت من قبلك»، ففعل ذلك أبو أمامة.


{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} معناه وإن استجارك أحد، لأن حروف الجر لاتلي غير الفعل يقول الشاعر:
عاود هراة وإن معمورها خربا ***
أي وإن غرب معمورها. وقال آخر:
أتجزع إن نفس أتاها حمامها *** فهلاّ التي عن بين جنبيك تدفع
ومعنى الآية: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقبلهم استجارك أي استعاذ بك واستأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله {فَأَجِرْهُ} فأعذه وأمنه {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} فتقيم عليه حجة الله، وتبين له دين الله عز وجل، فإن أسلم فقد نال عز الإسلام وخير الدنيا والآخرة وصار رجلاً من المسلمين، وإن أبى أن يسلم {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} دار قومه فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} دين الله وتوحيده.
قال الحسن: وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة وليست بمنسوخة. قال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلامه أو يأتيه لحاجته، فقال علي لا لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} الآية.
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} على معنى التعجب، ومعناه جحد أي لا يكون لهم عهد، كما تقول في الكلام: هل أنت إلا واحد منّا، أي أنت، وكيف يستيقن مثلك؟ أي لايستيقن، ومنه: هل أنت إلا أصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ ثم استثنى فقال: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام} واختلفوا فيه فقال ابن عياش: هم قريش، وقال قتادة وابن زيد: هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، قال الله عز وجل {فَمَا استقاموا لَكُمْ} على العهد {فاستقيموا لَهُمْ} قالوا: فلم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بأربعة أشهر يختارون من أمرهم أما أن يسلموا، واما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا، فأسلموا قبل الأربعة أشهر.
قال السدي وابن إسحاق والكلبي: هم من قبائل بكر بن خزيمة وهو مدلج وبنو ضمرة وبنو الدئل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش، وعقدهم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا قريش وبنو الدئل من بني بكر، فأمر بأتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر إلى مدته، وهذا القول أقرب إلى الصواب، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة، فكيف يأتي شيء قد مضى.
{فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُم} وإنما هم الذين قال الله عز وجل إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً كما نقصكم قريش، ولم يظاهروا عليكم أحد كما ظاهرت من قريش بني بكر على خزاعة سلفا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} مردود على الآية الأُولى تقديره: كيف يكون لهؤلاء عهودٌ وهم إن يظهروا عليكم يظفروا فيقتلوكم {لاَ يَرْقُبُواْ} قال ابن عباس: لا يحفظوا، وقال الاخفش: كيف لايقتلونهم، وقال الضحاك: لا ينتظروا، وقال قطرب: لا يراعوا {فِيكُمْ إِلاًّ} قال ابن عباس والضحاك: قرابة، وقال يمان: رحِماً، دليله قول حسان:
لعمرك إنّ إلّك من قريش *** كإلّ السقب من رأل النعام
وقال قتادة: الإلّ: الحلف، دليله قول أوس بن حجر:
لولا بنو مالك والالّ من فيه *** ومالك فهم اللألاء والشرف
وقال السدّي وابن زيد: هو العهد، ولكنه لما اختلف اللفظان كرّر وإن كان معناهما واحداً كقول الشاعر:
وألفى قولها كذبا ومينا ***
وهو إحدى الروايتين عن مجاهد يدلّ عليه قول الشاعر:
وجدناهُم كاذباً إلّهم *** وذو الإلّ والعهد لا يكذب
وقيل: هو اليمين والميثاق، وقال أبو مجلز ومجاهد في ساير الروايات: الإلّ هو الله عز وجل، وكان عبيد بن عميرة يقرأ جبرإلّ بالتشديد، يعني عبد الله، وفي الخبر أنّ ناساً قدموا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه من قوم المسلمين فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرأوا، فقال أبو بكر: إن هذا الكلام لم يخرج من إلّ.
والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة: لايرقبون في مؤمن ايلاً، بالياء يعني بالله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل {وَلاَ ذِمَّةً} عهداً وجمعها ذمم، وقيل: تذمماً ممن لا عهد له {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} يعطونكم ويرونكم بألسنتهم خلاف مافي قلوبهم مثل قول المنافقين {وتأبى قُلُوبُهُمْ} الإيمان {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} ناكثون ناقضون كافرون.
{اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} وذلك أنّهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أطعمهم أبو سفيان بن حرب، وقال مجاهد: أطعم أبو سفيان حلفاً وترك حلف محمد صلى الله عليه وسلم {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} فمنعوا الناس عن دينه وعن الدخول فيه، قال عطاء كان أبو سفيان يعطي الناقة والطعام ليصدّ الناس بذلك عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس: وذلك أن أهل الطائف أمدِّوهم بالأموال ليقوّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعداوته.
{إِنَّهُمْ سَآءَ} بئس {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} يقول: لا تبقوا عليهم أيّها المؤمنون كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم.
{وأولئك هُمُ المعتدون} بنقض العهد {فَإِن تَابُواْ} من الشرك {وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ} يعني فهم أخوانكم {فِي الدين} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم {وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة.
وقال ابن زيد: افترض الصلاة والزكاة جميعاً ولم يفرق بينهما، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر فكان ماأفقهه، وقال ابن مسعود: أُمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكِّ لاصلاة له.


{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
{وَإِن نكثوا} نقضوا يقال منه: نكث فلان قويَّ حبله إذا نقضه {أَيْمَانَهُم} عهودهم {مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} عقدهم {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} ثلبوه وعابوه وذلك انهم قالوا: ليس دين محمد بشيء {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} قرأ أهل الكوفة أأُمّة الكفر بهمزتين على التحقيق لأن أصلها أمّمة مثل: مثال وأمثله وعماد وأعمدة، ثم أُدغمت الميم التي هي عن أفعلة في الميم الثانية ونُقلت حركتها إلى الهمزة الساكنة التي هي فاء الفعل فصار أئمة، فإنّما كتبت الهمزة الثانية ياءً لما فيها من الكسرة وهي لغة تميم، وقرأ الباقون: أيمة بهمزة واحدة من دون الثانية طلباً للخفّة، أئمّة الكفر: رؤوس المشركين وقادتهم من أهل مكة.
قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد، وهم الذين همّوا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: هم أهل فارس الروم، وقال حذيفة بن اليمان: ما قُوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} عهودهم، جمع يمين أي وفاء باليمين. قال قطرب: لا وفاء لهم بالعهد وأنشد:
وإن حَلَفَتْ لاينقض النّأيّ عهدَها *** فليس لمخضوب البنان يمين
الحسين وعطاء وابن عامر: لا إيمان لهم بكسر الهمزة، ولها وجهان: أحدهما لاتصديق لهم، يدل عليه تأويل عطية العوفي قال: لا دين لهم ولا ذمّة، فلا تؤمنوا بهم فاقتلوهم، حيث وجدتموهم فيكون مصدراً من الإيمان الذي هو ضد الاخافة قال الله عز وجل: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم، وقيل: عن الكفر.
ثم قال حاضّاً المسلمين على جهاد المشركين {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ} نقضوا عهودهم {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم من مكة {وَهُم بَدَءُوكُمْ} بالقتال {أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني يوم بدر، وقال أكثر المفسرين: أراد بدؤوكم بقتال خزاعة حلفاء رسول الله {أَتَخْشَوْنَهُمْ} أتخافونهم فتتركون قتالهم {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} تخافوه في ترككم قتالهم {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله} يقتلْهم الله {بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} يذلّهم بالأسر والقهر {وَيَنْصُرْكُمْ} ويظهركم {عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ} ويبرئ قلوب {قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} بما كانوا ينالونه من الأذى والمكروه منهم. قال مجاهد والسدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} كربها ووجدها بمعونة قريش نكداً عليهم.
ثم قال مستأنفاً {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} يهديه للاسلام كما فعل بأبي سفيان، وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقرأ الاعرج وعيسى وابن أبي إسحاق: ويتوب على النصب على الصرف.
قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أظننتم، وإنما دخل الميم لأنه من الاستفهام المعترض بين الكلام فأُدخلت فيه أم ليفرّق بينه وبين الاستفهام والمبتدأ، واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية: قال الضحاك عن ابن عباس قال: يعني بها قوماً من المنافقين كانوا يتوسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج معه للجهاد دفاعاً وتعذيرا والنفاق في قلوبهم.
وقال سائر المفسرين: الخطاب للمؤمنين حين شقّ على بعضهم القتال وكرهوه فأنزل الله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} ولا تُؤمروا بالجهاد ولا تُمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب، والمطيع من العاصي {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين} في تقدير الله، والألف صلة {جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم، وقال قتادة وليجة: خيانة وقال الضحّاك: خديعة، وقال ابن الأنباري: الوليجة قال: خيانة، والولجاء الدخلاء، وقال الليثي: خليطاً ورِدأً.
وقال عطاء: أولياء، وقال الحسن: هي الكفر والنفاق، وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة، وأصله من الولوج ومنه سمي الكناس الذي يلج فيه الوحش تولجاً. قال الشاعر:
من زامنها الكناس تولّجاً ***
فوليجة الرجل من يختصه بدخلة منها دون الناس يقال: هو وليجتي وهم وليجتي للواحد وللجميع. وأنشد أبان بن تغلب:
فبئس الوليجة للهاربين *** والمعتدين وأهل الريب
{والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قراءة العامة بالتاء متعلق بالله بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} وروى الحسن عن أبي عمرو بالياء ومثله روى عن يعقوب أيضاً.
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} قال ابن عباس: لمّا أُسر أبي يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله عز وجل وقطيعة الرحم وأغلظ عليٌّ له القول، فقال العباس: إنكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، قال له علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم، إنا لنعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك: العاني، فأنزل الله تعالى رادّاً على العباس {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} يقول: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا، قرأت العامة بفتح الياء وضم الميم من عمر يعمر، وقرأ ابن السميقع يُعمر بضم الياء وكسر الميم أي يعينوا على العمارة، أو يجعلوه عامراً، ويريد: إن المساجد إنما تعمر بعبادة الله وحده، فمن كان بالله كافراً فليس من شأنه أن يعمرها، وقال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام.
واختلف القراء في قوله: {مساجد الله} قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي رباح وحميد بن كثير وأبو عمرو: مسجد الله بغير ألف أرادوا المسجد الحرام، واختاره أبو حاتم لقوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام}، وقرأ الباقون {مساجد} بالألف على الجمع، واختاره أبو عبيد لأنّه أعم القراءتين.
قال الحسن: فإنّما قال: {مساجد الله} لأنّه قبلة المساجد كلها وأمامها، وقال أبو حاتم أنّ عمران بن جدير قال لعكرمة: إنما يُقرأ: مساجد الله وإنّما هو مسجد واحد؟ فقال عكرمة: إن الصفا والمروة من شعائر الله، وقال الضحاك ومجاهد: حدّث العرب بالواحد إلى الجمع والجمع إلى الواحد، ألاترى الرجل على البرذون يقول ركبت البراذين؟ ويقال للرجل: إنّه لكثير الدر والذمار، وتقول العرب: عليه أخلاق نعل واسمال ثوب.
وأنشدني أبو الجراح العقيلي:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق *** وشرذم يضحك مني التواق
يعني: خَلِق.
وقوله: {شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أراد وهم شاهدون، فلمّا طرحت (وهم) نصبت، وقال الحسن: يقولون: نحن كفار نشهد عليهم بكفرهم، وقال السدّي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هي أن النصراني يُسأل: ما أنت فيقول: نصراني، واليهودي فيقول: يهودي والصابئي، فيقول: صابئي ويقال للمشرك: ما دينك؟ فيقول: مشرك.
وقال حمزة عن الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم بأنّها مخلوقة، وذلك أنّ كبار قريش نصبوا أصنامهم خارجاً من بيت الله الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف وعلينا ثياب قد عملنا فيها بالمعاصي، وكانوا يصفقون ويصفرون ويقولون: إن تغفر اللهم تغفره جمّا، وأي عبد لك لا ألمّا [....] سجدوا لأصنامهم فلم يزيدوا بذلك من الله إلاّ بعداً، فأنزل الله عز وجل هذه الآية {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ}.
ثم قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله} قرأ العامة بالألف، وقرأ الجحدري: مسجد الله أراد المسجد الحرام {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} لأنّ عسى من الله واجب {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر}».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7